الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب ما يذكر في المناولة) . لما فرغ من تقرير السماع والعرض أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور، فمنها المناولة، وصورتها أن يعطي الشيخ الطالب الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي، فاروه عني. وقد قدمنا صورة عرض المناولة وهي إحضار الطالب الكتاب، وقد سوغ الجمهور الرواية بها، وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى. قوله: (إلى البلدان) أي إلى أهل البلدان. وكتاب مصدر وهو متعلق إلى، وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها. والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه. وقد سوى المصنف بينها وبين المناولة. ورجح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة. وقد جوز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك. قوله: (نسخ عثمان المصاحف) هو طرف من حديث طويل يأتي الكلام عليه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان، لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر عندهم. قوله: (ورأى عبد الله بن عمر) كذا في جميع نسخ الجامع " عمر " بضم العين، وكنت أظنه العمري المدني، وخرجت الأثر عنه بذلك في " تعليق التعليق " وكذا جزم به الكرماني، ثم ظهر لي من قرينة تقديمه في الذكر على يحيى بن سعيد أنه غير العمري لأن يحيى أكبر منه سنا وقدرا، فتتبعت فلم أجده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب صريحا، لكن وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن منده من طريق البخاري بسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحبلي - بضم المهملة والموحدة - أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه. . فذكر الخبر. وهو أصل في عرض المناولة. وعبد الله يحتمل أن يكون هو ابن عمر بن الخطاب، فإن الحبلي سمع منه. ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاصي، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه. وأما الأثر بذلك عن يحيى بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه. وروى الرامهرمزي من طريق ابن أبي أويس أيضا عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالم، ثم قراءته وأنت تسمع، ثم أن يدفع إليك كتابه فيقول: ارو هذا عني. قوله: (واحتج بعض أهل الحجاز) هذا المحتج هو الحميدي، ذكر ذلك في كتاب النوادر له. قوله: (في المناولة) أي في صحة المناولة، والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولا في هذا الكتاب، وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين: إحداهما مرسلة ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن يزيد بن رومان، وأبو اليمان في نسخته عن شعيب عن الزهري كلاهما عن عروة بن الزبير. والأخرى موصولة أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي بإسناد حسن. ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا. وأمير السرية اسمه عبد الله بن جحش الأسدي أخو زينب أم المؤمنين، وكان تأميره في السنة الثانية قبل وقعة بدر، والسرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية القطعة من الجيش، وكانوا اثني عشر رجلا من المهاجرين. قوله: (حتى تبلغ مكان كذا وكذا) هكذا في حديث جندب على الإبهام. وفي رواية عروة أنه قال له: " إذا سرت يومين فافتح الكتاب". قالا " ففتحه هناك فإذا فيه أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش، ولا تستكرهن أحدا " قال في حديث جندب: فرجع رجلان ومضى الباقون فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عير - أي تجارة لقريش - فقتلوه. فكان أول مقتول من الكفار في الإسلام، وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم فكانت أول غنيمة في الإسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الآية. ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة. وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة، بخلاف من بعدهم، حكاه البيهقي. وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما وحامله مؤتمنا والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس، وصالح هو ابن كيسان. قوله: (بعث بكتابه رجلا) هو عبد الله بن حذافة السهمي كما سماه المؤلف في هذا الحديث في المغازي. وكسرى هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ووهم من قال هو أنوشروان. وعظيم البحرين هو المنذر بن ساوى بالمهملة وفتح الواو الممالة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في المغازي. قوله: (فحسبت) القائل هو ابن شهاب راوي الحديث، فقصة الكتاب عنده موصولة وقصة الدعاء مرسلة. ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر، ويمكن أن يستدل به على المناولة من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الكتاب لرسوله، وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ الشرح: قوله: (عبد الله) هو ابن المبارك. قوله: (كتب أو أراد أن يكتب) شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازية، أي كتب الكاتب بأمره. قوله: (لا يقرءون كتابا إلا مختوما) يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلا مؤتمنا. قوله: (فقلت) القائل هو شعبة، وسيأتي باقي الكلام على هذا الحديث في الجهاد وفي اللباس إن شاء الله تعالى. (فائدة) : لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها. وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: " قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرا من المواضع التي يقول فيها الجامع قال لي فوجدته في غير الجامع يقول فيها حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب من قعد حيث ينتهي به المجلس) مناسبة هذا لكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس وبالحلقة حلقة العلم ومجلس العلم. فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه كما سنبينه. والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ الشرح: قوله: (مولى عقيل) بفتح العين، وقيل لأبي مرة ذلك للزومه إياه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب. قوله: (عن أبي واقد) صرح بالتحديث في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال: عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه. وقد قدمنا أن اسم أبي واقد الحارث بن مالك، وقيل ابن عوف، وقيل عوف بن الحارث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، ورجال إسناده مدنيون، وهو في الموطأ، ولم يروه عن أبي واقد إلا أبو مرة. ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مرة والراوي عنه تابعيان، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البزار والحاكم. قوله: (ثلاثة نفر) النفر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، والنفر اسم جمع ولهذا وقع مميزا للجمع كقوله تعالى: (تسعة رهط) . قوله: (فأقبل اثنان) بعد قوله: " أقبل ثلاثة " هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا. قوله: (فوقفا) زاد أكثر رواة الموطأ: " فلما وقفا سلما " وكذا عند الترمذي والنسائي. ولم يذكر المصنف هنا ولا في الصلاة السلام. وكذا لم يقع في رواية مسلم. ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد. وسيأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان. ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لكون ذلك كان قبل أن تشرع أو كانا على غير وضوء أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة أو كان في غير وقت تنفل، قاله القاضي عياض بناء على مذهبه في أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة. قوله: (فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو " على " بمعنى عند. قوله: (فرجة) بالضم والفتح معا هي الخلل بين الشيئين. والحلقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتحتين، وحكي فتح اللام في الواحد وهو نادر. وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به. قوله: (وأما الآخر) بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني. قوله: (فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن ومعنى أوى إلى الله لجأ إلى الله، أو على الحذف أي انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى فآواه الله أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه. وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني. وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. قوله: (فاستحيا) أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وممن حضر قاله القاضي عياض، وقد بين أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني فلفظه عند الحاكم: " ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس " فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث. قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه. قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر، هذا إن كان مسلما، ويحتمل أن يكون منافقا، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: " فأعرض الله عنه " إخبارا أو دعاء. ووقع في حديث أنس: " فاستغنى فاستغنى الله عنه " وهذا يرشح كونه خبرا، وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة، فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي. والجلوس حيث ينتهي به المجلس. ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين. والله تعالى أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع) هذا الحديث المعلق، أورد المصنف في الباب معناه، وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج، أورد فيه هذا الحديث من طريق قرة بن خالد عن محمد بن سيرين قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن - حميد بن عبد الرحمن - كلاهما عن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: " أتدرون أي يوم هذا " وفي آخره هذا اللفظ. وغفل القطب الحلبي ومن تبعه من الشراح في عزوهم له إلى تخريج الترمذي من حديث ابن مسعود فأبعدوا النجعة، وأوهموا عدم تخريج المصنف له. والله المستعان. و " رب " للتقليل، وقد ترد للتكثير، و " مبلغ " بفتح اللام و " أوعى " نعت له، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد: رب مبلغ عني أوعى - أي أفهم - لما أقول من سامع مني. وصرح بذلك أبو القاسم بن منده في روايته من طريق هوذة عن ابن عون ولفظه: " فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ الشرح: قوله: (بشر) هو ابن المفضل، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) نصب النبي على المفعولية، وفي ذكر ضمير يعود على الراوي، يعني أن أبا بكرة كان يحدثهم فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قعد على بعيره. وفي رواية النسائي ما يشعر بذلك ولفظه عن أبي بكرة قال. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فالواو إما حالية وإما عاطفة والمعطوف عليه محذوف. وقد وقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد ولا إشكال فيه. قوله: (وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه) الشك من الراوي، والزمام والخطام بمعنى، وهو الخيط الذي تشد فيه الحلقة التي تسمى بالبرة - بضم الموحدة وتخفيف الراء المفتوحة - في أنف البعير. وهذا الممسك سماه بعض الشراح بلالا، واستند إلى ما رواه النسائي من طريق أم الحصين قالت: حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد وقع في السنن من حديث عمرو بن خارجة قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. فذكر بعض الخطبة، فهو أولى أن يفسر به المبهم من بلال، لكن الصواب أنه هنا أبو بكرة، فقد ثبت ذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن ابن عون ولفظه: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر، وأمسكت - إما قال بخطامها، وإما قال بزمامها - واستفدنا من هذا أن الشك ممن دون أبي بكرة لا منه. وفائدة إمساك الخطام صون البعير عن الاضطراب حتى لا يشوش على راكبه. قوله: (أي يوم هذا) سقط من رواية المستملي والحموي السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله فصار هكذا: أي يوم هذا، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس بذي الحجة؟ وكذا في رواية الأصيلي وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض، ولكن الثابت في الروايات عند مسلم وغيره ما ثبت عند الكشميهني وكريمة، وكذلك وقع في رواية مسلم وغيره السؤال عن البلد، وهذا كله في رواية ابن عون، وثبت السؤال عن الثلاثة عند المصنف في الأضاحي من رواية أيوب، وفي الحج من رواية قرة كلاهما عن ابن سيرين، قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دمائكم الخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء. انتهى. ومناط التشبيه في قوله: " كحرمة يومكم " وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم - مقررا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. ووقع في الروايات التي أشرنا إليها عند المصنف وغيره أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم: الله ورسوله أعلم. وذلك من حسن أدبهم، لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية. قوله: (فإن دماءكم الخ) هو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم. والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه. قوله: (ليبلغ الشاهد) أي الحاضر في المجلس (الغائب) أي الغائب عنه، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام. وقوله: " منه " صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما لأن في الظرف سعة، وليس الفاصل أيضا أجنبيا. (فائدة) : وقع في حديث الباب: " فسكتنا بعد السؤال". وعند المصنف في الحج من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا: الله ورسوله أعلم كما أشرنا إليه. أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة عند المصنف في الحج وفي الفتن أنه لما قال: " أليس يوم النحر؟ قالوا بلى " بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس. وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذا بخطام الناقة. وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند المصنف في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته. وفي هذا الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية. وأن الفهم ليس شرطا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه لكن بقلة، واستنبط ابن المنير من تعليل كون المتأخر أرجح نظرا من المتقدم أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره. وفيه جواز القعود على ظهر الدواب وهي واقفة إذا احتيج إلى ذلك، وحمل النهي الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة. وفيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في إسماعه للناس ورؤيتهم إياه. *3* لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وَقَالَ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقَالَ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ وَيُقَالُ الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ الشرح: قوله: (باب العلم قبل القول والعمل) قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: " إن العلم لا ينفع إلا بالعمل " تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه. قوله: (فبدأ بالعلم) أي حيث قال: " فاعلم أنه لا إله إلا الله " ثم قال " واستغفر لذنبك". والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متناول لأمته. واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم كما أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمته من طريق الربيع بن نافع عنه أنه تلاها فقال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: " اعلم " ثم أمره بالعمل؟ وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة، لكن النزاع كما قدمناه إنما هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان. قوله: (وأن العلماء) بفتح أن، ويجوز كسرها، ومن هنا إلى قوله: " وافر " طرف من حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححا من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني، وضعفه عندهم سنده، لكن له شواهد يتقوى بها، ولم يفصح المصنف بكونه حديثا فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يشعر بأن له أصلا، وشاهده في القرآن قوله تعالى: قوله: (ورثوا) بتشديد الراء المفتوحة، أي الأنبياء. ويروى بتخفيفها مع الكسر أي العلماء. ويؤيد الأول ما عند الترمذي وغيره فيه: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم". قوله: (بحظ) أي نصيب (وافر) أي كامل. قوله: (ومن سلك طريقا) هو من جملة الحديث المذكور، وقد أخرج هذه الجملة أيضا مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا، وأخرجه الترمذي وقال: حسن. قال: ولم يقل له صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فقال حدثت عن أبي صالح. قلت: لكن في رواية مسلم عن أبي أسامة عن الأعمش: " حدثنا أبو صالح " فانتفت تهمة تدليسه. قوله: (طريقا) نكرها ونكر " علما " لتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. قوله: (سهل الله له طريقا) أي في الآخرة، أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة. وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة. قوله: (وقال) أي الله عز وجل، وهو معطوف على قوله: لقول الله قوله: (وما يعقلها) أي الأمثال المضروبة. قوله: فالمعنى لو كنا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا. قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه) كذا في رواية الأكثر. وفي رواية المستملي: " يفهمه " بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، وقد وصله المؤلف باللفظ الأول بعد هذا ببابين كما سيأتي. وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعا، وإسناده حسن. والفقه هو الفهم قال الله تعالى: قوله: (وإنما العلم بالتعلم) هو حديث مرفوع أيضا، أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضا بلفظ: " يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " إسناده حسن، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. فلا يغتر بقوله من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم. قوله: (وقال أبو ذر الخ) هذا التعليق رويناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير - يعني مالك بن مرثد - عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم. . فذكر مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه. وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى: وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الربذة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات رواه النسائي. وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه، وسيأتي لعلي مع عثمان نحوه. والصمصامة بمهملتين الأولى مفتوحة هو السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل الذي له حد واحد. قوله: (هذه) إشارة إلى القفا، وهو يذكر ويؤنث، وأنفذ بضم الهمزة وكسر الفاء والذال المعجمة أي أمضى، وتجيزوا بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي، أي تكملوا قتلي، ونكر " كلمة " ليشمل القليل والكثير. والمراد به يبلغ ما تحمله في كل حال ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل. و " لو " في كلامه لمجرد الشرط من غير أن يلاحظ الامتناع، أو المراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة، وعلى تقدير عدم حصوله أولى، فهو مثل قوله: " لو لم يخف الله لم يعصه " وفيه الحث على تعليم العلم واحتمال المشقة فيه والصبر على الأذى طلبا للثواب. قوله: (وقال ابن عباس) كذا التعليق وصله ابن أبي عاصم أيضا بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن. وقد فسر ابن عباس: " الرباني " بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح. وقال الأصمعي والإسماعيلي الرباني نسبه إلى الرب أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل. وقال ثعلب قيل للعلماء ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت الألف والنون للمبالغة. والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية، والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لتعلمه. والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها. وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما عاملا. (فائدة) : اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصولا على شرطه، فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم) هو بالخاء المعجمة، أي يتعهدهم، والموعظة النصح والتذكير، وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث، وذكر العلم استنباطا. قوله: (لئلا ينفروا) استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور وهما متقاربان، ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ. وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا الشرح: قوله: (سفيان) هو الثوري، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن عيينة، لكن محمد بن يوسف الفرياي وإن كان يروي عن السفيانين فإنه حين يطلق يريد به الثوري، كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضا. وقد وهم من زعم أنه هنا البيكندي. قوله: (عن أبي وائل) في رواية أحمد المذكورة: سمعت شقيقا وهو أبو وائل. وأفاد هذا التصريح رفع ما يتوهم في رواية مسلم التي أخرجها من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث قال علي بن مسهر قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق، ثم سمى الواسطة بينهما، وليس كذلك، بل سمعه من أبي وائل بلا واسطة وسمعه عنه بواسطة، وأراد بذكر الرواية الثانية وإن كانت نازلة تأكيده، أو لينبه على عنايته بالرواية من حيث إنه سمعه نازلا فلم يقنع بذلك حتى سمعه عاليا، وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند المصنف في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال: حدثني شقيق. وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم، وأنه لما خرج قال: أما إني أخبر بمكانكم، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم. . فذكر الحديث. قوله: (كان يتخولنا) بالخاء المعجمة وتشديد الواو، قال الخطابي: الخائل بالمعجمة هو القائم المتعهد للمال، يقال خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه. والمعنى كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل. والتخون بالنون أيضا يقال تخون الشيء إذا تعهده وحفظه، أي اجتنب الخيانة فيه، كما قيل في تحنث وتأثم ونظائرهما. وقد قيل إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال: " يتخولنا " باللام فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز. وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول: الصواب " يتحولنا " بالحاء المهملة أي يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة. قلت: والصواب من حيث الرواية الأولى فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش، وهو في الباب الآتي. وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى بطل الاعتراض. قوله: (علينا) أي السآمة الطارئة علينا، أو ضمن السآمة معنى المشقة فعداها بعلى، والصلة محذوفة والتقدير من الموعظة. ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف. وإما يوما بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوما في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط. واحتمل عمل ابن مسعود من استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول، والثاني أظهر. وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا الشرح: قوله: (أبو التياح) تقدم أنه بفتح المثناة الفوقانية وتشديد التحتانية وآخره مهملة. قوله: (ولا تعسروا) الفائدة فيه التصريح باللازم تأكيدا. وقال النووي: لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: " ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال، وكذا القول في عطفه عليه: " ولا تنفروا". وأيضا فإن المقام مقام الإطناب لا الإيجاز. قوله: (وبشروا) بعد قوله: " يسروا " فيه الجناس الخطي. ووقع عند المصنف في الأدب عن آدم عن شعبة بدلها: " وسكنوا " وهي التي تقابل ولا تنفروا، لأن السكون ضد النفور، كما أن ضد البشارة النذارة، لكن لما كانت النذارة - وهي الإخبار بالشر - في ابتداء التعليم توجب النفرة قوبلت البشارة بالتنفير، والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء. وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعلم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده. والله تعالى أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب من جعل لأهل العلم يوما معلوما) في رواية كريمة أياما معلومة، وللكشميهني معلومات، وكأنه أخذ هذا من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس، أو من استنباط عبد الله ذلك من الحديث الذي أورده. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا الشرح: قوله: (جرير) و ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: (كان عبد الله) هو ابن مسعود، وكنيته أبو عبد الرحمن. قوله: (فقال له رجل) هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق المصنف في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. قوله: (لوددت) للام جواب قسم محذوف، أي والله لوددت، وفاعل " يمنعني " أني أكره بفتح همزة أني، وأملكم بضم الهمزة أي أضجركم، وإني الثانية بكسر الهمزة. وقد تقدم شرح المتن قريبا. والإسناد كله كوفيون، وحديث أنس الذي قبله بصريون.
|